تعد مشكلة تلوث الهواء أحد أكبر التحديات البيئية التي تواجه البشرية في العصر الحديث. يحدث تلوث الهواء نتيجة إدخال ملوثات ضارة إلى الغلاف الجوي، مثل الجسيمات الصلبة والغازات السامة والمركبات الكيميائية الضارة. يعد تلوث الهواء مصدرًا مهمًا للمشاكل الصحية والبيئية، وله تأثيرات سلبية واسعة النطاق على الحياة البشرية، حيث تتسبب الجسيمات الملوثة في الهواء في العديد من المشاكل الصحية، حيث يتم استنشاقها ودخولها إلى الجهاز التنفسي للإنسان. وتعتبر هذه الجسيمات عوامل خطر للعديد من الأمراض مثل الربو والتهاب الشعب الهوائية وأمراض الرئة المزمنة. وتتأثر جودة الهواء بتلك الملوثات الضارة ومكونات الهواء السامة الأخرى، مثل ثاني أكسيد النيتروجين، ثاني أكسيد الكبريت، البنزين، الأوزون، الرصاص، وغيرها. هذه الملوثات يمكن أن تؤدي إلى تهيج الجهاز التنفسي وتلف الأنسجة وتضر بجهاز القلب والأوعية الدموية، مما يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب والجهاز التنفسي والأوعية الدموية.
بحسب تقرير منظمة الصحة العالمية، يقدر أن حوالي 7 ملايين شخص يموتون سنويًا بسبب تلوث الهواء الناجم عن الجسيمات العالقة في الهواء والملوثات العضوية المتطايرة. وتشير دراسة نشرتها مجلة “Nature” في عام 2019 إلى أن تلوث الهواء يساهم في اختصار متوسط العمر بمقدار 2.9 عامًا على مستوى العالم، بالإضافة إلى الأثر الصحي، يؤثر تلوث الهواء أيضًا على جودة الحياة العامة والبيئة. يساهم التلوث في زيادة الضبابية والتلوث الجوي في المناطق الحضرية، مما يؤثر على رؤية الأفق ويجعل الهواء غير صحي وغير مريح للتنفس. كما يؤدي تلوث الهواء إلى تأثيرات سلبية على النباتات والحيوانات والنظم البيئية، مما يؤثر على التنوع البيولوجي والاستدامة البيئية.
تلوث الهواء في مصر: النسب والآثار
يُعد تلوث الهواء من التحديات البيئية الهامة التي تواجه مصر، ويُعد من أبرز القضايا الصحية والبيئية التي تؤثر على سكان البلاد والبيئة المحيطة. يعود سبب هذا التلوث إلى عدة عوامل، منها الصناعة، حرق الوقود، حركة المرور، والتلوث الجوي العابر للحدود.
سنقوم في هذا المقال بمناقشة نسبة التلوث في مصر وآثاره على الصحة والبيئة، مع الاستناد إلى المصادر العلمية الموثوقة.
أولًا، يتعين أن نلقي نظرة على نسبة التلوث في مصر. وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، تُعد نسبة جسيمات الهواء العالقة بحجم PM2.5 أحد المؤشرات الرئيسية لتلوث الهواء. وتُعتبر جسيمات PM2.5 الأكثر خطورة بسبب قدرتها على الاختراق العميق إلى الجهاز التنفسي والتسبب في مشاكل صحية خطيرة. وفقًا لتقرير المنظمة، بلغ متوسط تركيز جسيمات PM2.5 في الهواء في القاهرة والإسكندرية في عام 2016 حوالي 74 ميكروجرام/متر مكعب (µg/m³) و57 ميكروجرام/متر مكعب (µg/m³) على التوالي، وهي تفوق بكثير الحدود القانونية التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية والتي تبلغ 10 ميكروجرام/متر مكعب (µg/m³) في المتوسط السنوي.
تؤثر آثار تلوث الهواء على الصحة بشكل كبير على الإنسان، وتشير العديد من الدراسات العلمية إلى ارتباط تعرض الأفراد لجسيمات PM2.5 بزيادة خطر الإصابة بالأمراض القلبية والتنفسية، مثل السكتات الدماغية، وأمراض القلب، وأمراض الرئة، والسرطان. كما يمكن أن يؤدي التلوث الهوائي أيضًا إلى زيادة حالات الربو والحساسية التنفسية. وتتفاوت آثار التلوث حسب الفئات العمرية والمجموعات الاجتماعية، حيث يكون للأطفال وكبار السن والأفراد ذوي الأمراض المزمنة الأكبر من حيث التأثر.
وبحسب مركز حلول للسياسات البديلة فإن تلوث الهواء له آثار خطرة على الصحة العامة، حيث أن تلوث الهواء يؤدي إلى فقدان متوسط عمر حياة المواطن المصري بمقدار عامين تقريبًا، وأنه سببا لعدد كبير من الوفيات المبكرة في البلاد، وكذلك يتسبب تلوث الهواء في أعباء اقتصادية هائلة، حيث يقدر تكلفة الأضرار الصحية الناجمة عن تلوث الهواء في القاهرة بمبلغ كبير، وتشير تقديرات أخرى إلى أن تلوث الهواء الناجم عن حرق الوقود الأحفوري يكلف الاقتصاد المصري أكثر من 100 مليار جنيه، وأن البرامج الحكومية التي تستهدف تحسين الأداء البيئي ليست كافية، وأنها لا تمثل سياسات مستدامة للتخفيف من تلوث الهواء في مصر. يشدد المقال على أهمية تكامل سياسات الحد من تلوث الهواء والمناخ في مختلف القطاعات مع السياسات الحالية المتعلقة بالإنفاق الصحي والبيئي وبرامج الدعم الاجتماعي لتحقيق التنمية المستدامة.
انعكاس تلوث الهواء على صحة الإنسان وفقدان حقوقه الأساسية:
يعد الحق في الصحة أحد الحقوق الأساسية التي لا بد أن يتمتع بها كل فرد، وبذلك يتوجب على البلدان توفير وكفالة هذا الحق لمواطنيها بموجب التزامها بالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وان تلوث الهواء يتقاطع مع هذا الحق ويقف عائقا امام حصول المواطن على حقه خاصة التمتع بصحة جيدة، حيث يؤدي تلوث الهواء الى الإصابة بعدة أمراض، نذكر منها:
أمراض الجهاز التنفسي العلوي والسفلي
التهاب الحلق والأنف والجيوب الأنفية، حيث إن تعرض الجهاز التنفسي للهواء الملوث يمكن أن يؤدي إلى تهيج والتهاب في الحلق والأنف والجيوب الأنفية، مما يسبب أعراض مثل السعال والعطاس واحتقان الأنف والتهاب الحلق.
التهاب الشعب الهوائية، حيث يمكن لتلوث الهواء أن يسبب التهاب الشعب الهوائية، وهو حالة تتسبب في تضيق وانسداد الممرات التي تنقل الهواء إلى الرئتين. يظهر هذا التهاب في شكل سعال مزمن، ضيق في التنفس وصعوبة في التنفس.
التهاب الرئة، حيث إن التعرض للهواء الملوث بشكل مستمر يمكن أن يؤدي إلى التهاب الرئة، وهو حالة تصيب الأنسجة الرئوية وتسبب تلفًا والتهابًا. يعاني المرضى المصابون بالتهاب الرئة من صعوبة في التنفس والسعال والحمى والتعب الشديد.
انسداد الشرايين الرئوية، حيث يمكن للتلوث الهوائي أن يزيد من خطر انسداد الشرايين الرئوية، وهو حالة تتسبب في انسداد الأوعية الدموية التي تمد الرئتين بالدم المؤكسد. يمكن أن يتسبب الانسداد الشرياني الرئوي في ضيق التنفس وألم في الصدر وضيق في التحمل الجسدي.
أمراض القلب والأوعية الدموية
يلعب التلوث الهوائي دورًا هامًا في زيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، حيث تشير العديد من الدراسات إلى أن التعرض للهواء الملوث يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية مثل أمراض الشرايين التاجية والسكتة القلبية. يترتب على ذلك زيادة في معدل الوفيات والمشاكل الصحية المرتبطة بالقلب، وكذلك التأثير على وظائف الأوعية الدموية، حيث يمكن لتلوث الهواء أن يؤثر على وظائف الأوعية الدموية ويسبب تضيق الشرايين والتصلب العصيدي. هذا يمكن أن يزيد من خطر ارتفاع ضغط الدم وأمراض الشرايين وأمراض القلب.
السرطان
يلعب تلوث الهواء دورًا هامًا في زيادة خطر الإصابة بالسرطان، وفقًا للعديد من الدراسات العلمية. يؤثر التلوث الهوائي على الجهاز التنفسي والجهاز العصبي المحيطي، ويمكن أن يسبب تغيرات جينية وتلفًا في الخلايا، مما يزيد من احتمالية تكوّن الأورام السرطانية، مثل سرطان الرئة، والذي يُعتبر التلوث الهوائي أحد العوامل الرئيسية في زيادة خطر الإصابة به، حيث يتكون التلوث الهوائي من مجموعة متنوعة من الملوثات مثل المواد الصلبة العالقة في الهواء (PM2.5 وPM10) والمركبات العضوية المتطايرة (VOCs) والعوادم الصناعية، وكذلك سرطان البنكرياس والكبد، حيث تحتوي الملوثات الهوائية على مركبات كيميائية سامة يمكن أن تؤثر على صحة البنكرياس والكبد وتسهم في تطور الأورام السرطانية، وكذلك سرطان الثدي، حيث أن هناك بعض الدلائل على أن التلوث الهوائي يرتبط بزيادة خطر سرطان الثدي. قد تؤثر الملوثات الهوائية على نظام الهرمونات وتسهم في تكوين الأورام السرطانية في الثدي.
أمراض الجهاز العصبي
يمكن أن يؤدي التلوث الهوائي إلى تأثيرات سلبية على الجهاز العصبي، بما في ذلك زيادة خطر الإصابة بالسكتة الدماغية وتدهور الوظائف العصبية، فقد يؤدي التعرض المطول للتلوث الهوائي إلى زيادة خطر الإصابة بأمراض الأعصاب مثل الاعتلال العصبي المحيطي والتصلب العصبي المتعدد. توجد علاقة بين التلوث الهوائي والتغيرات العصبية والالتهابات التي تؤثر على صحة الأعصاب، وكذلك التأثير على الذاكرة والتعلم، هناك بعض الأدلة التي تشير إلى أن التلوث الهوائي قد يؤثر على وظائف الذاكرة والتعلم. قد تتسبب الملوثات الهوائية في تلف الخلايا العصبية وانخفاض الأداء العقلي، مما يؤثر على القدرة على التركيز والتعلم، وكذلك زيادة خطر الخرف، هناك ارتباط بين التلوث الهوائي وزيادة خطر الإصابة بأمراض الخرف مثل مرض الزهايمر. المواد السامة الموجودة في الهواء يمكن أن تتراكم في الدماغ وتؤثر على وظائفه، مما يسهم في تطور أمراض الخرف.
التأثيرات على النمو والتطور للأطفال
التلوث الهوائي يمكن أن يؤثر سلبًا على نمو الأطفال وتطورهم العقلي والجسدي بطرق عديدة، مثل التأثير على الجهاز التنفسي، حيث يمكن أن يؤدي التعرض المستمر لتلوث الهواء إلى مشاكل في الجهاز التنفسي لدى الأطفال، مثل الربو والتهاب الشعب الهوائية والتهاب الأذن الوسطى، قد يزيد التلوث الهوائي من تراكم المواد السامة في الرئتين والتهيج الدائم للجهاز التنفسي، وكذلك التأثير على النمو والتطور العقلي، تشير بعض الأبحاث إلى أن التلوث الهوائي قد يؤثر على التطور العقلي والتعلم لدى الأطفال. قد تؤثر الملوثات الهوائية على نظام العصب والتعاقب الجيني، مما يؤدي إلى تأخر في النمو العقلي والتطور اللغوي والمعرفي، وكذلك زيادة خطر الأمراض المزمنة، يمكن أن يزيد التلوث الهوائي من خطر الإصابة بالأمراض المزمنة في وقت لاحق من الحياة، مثل أمراض القلب والسكتة الدماغية والسرطان. يتعرض الأطفال الصغار لفترات طويلة من التلوث الهوائي، مما يتراكم في أجسامهم وقد يسهم في ظهور مشاكل صحية مستدامة، وكذلك التأثير على النظام المناعي، يعتبر التلوث الهوائي مهمل عاملًا في ضعف جهاز المناعة لدى الأطفال. يؤدي التعرض لملوثات الهواء إلى زيادة خطر الإصابة بالعدوى والأمراض الالتهابية والحساسية.
أخيرا، إن تلوث الهواء يُعتبر تحديًا بيئيًا هامًا يواجه العالم بأسره، ومصر كدولة تعاني من تلوث الهواء يلتزم بتحسين جودة البيئة وضمان حقوق المواطنين في الاستمتاع بصحة جيدة وفقًا للمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. يتطلب هذا الالتزام تنفيذ إجراءات حازمة للحد من التلوث الهوائي وتعزيز الوعي البيئي في المجتمع، ويمكن أن تستند التوصيات العملية إلى الأدلة العلمية والتجارب الناجحة في مكافحة تلوث الهواء.
تُعَد الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والبيئة النقطة الأساسية لالتزام مصر بتوفير بيئة نظيفة وصحة جيدة للمواطنين. من بين هذه المعاهدات، يجب التأكيد على الالتزام بالاتفاقية العالمية لحقوق الإنسان والاتفاقية الإقليمية للتنوع البيولوجي، التي تدعو إلى حماية البيئة والحفاظ على التنوع البيولوجي والاستدامة البيئية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والحق في التمتع بصحة جيدة.
تتطلب جهود مصر لتحقيق بيئة نظيفة وصحة جيدة اتخاذ إجراءات قوية للحد من تلوث الهواء. يجب تعزيز سياسات الحماية البيئية وتحسين مراقبة جودة الهواء وتطبيق القوانين واللوائح المشددة فيما يتعلق بانبعاثات الملوثات الهوائية من مصادر مختلفة مثل المصانع ووسائل النقل ومحطات توليد الكهرباء.
بالإضافة إلى ذلك، يجب تشجيع الوعي البيئي وتعزيز التربية البيئية في المدارس والجامعات والمجتمعات المحلية. يمكن تنفيذ حملات توعية تستهدف الجمهور للتعريف بأضرار التلوث الهوائي وأهمية حماية البيئة. يُعتبر التعليم والتثقيف البيئي أداة قوية لتعزيز التغيير الاجتماعي وتشجيع المواطنين على المشاركة الفعالة في حماية البيئة، وبالإضافة إلى الجهود الوطنية، يمكن لمصر أن تسعى إلى التعاون الدولي لمواجهة التحديات البيئية. يمكن تبادل المعرفة والتكنولوجيا مع الدول الأخرى لتحقيق تحسينات في جودة الهواء وتطوير تقنيات نظيفة ومستدامة في مجالات مثل الطاقة والنقل.
وفي ظل التزام مصر بتوفير بيئة نظيفة والحفاظ على صحة المواطنين في ظل المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. يتطلب ذلك تنفيذ سياسات بيئية قوية، وتعزيز الوعي البيئي، وتطبيق القوانين واللوائح المشددة. بالإضافة إلى ذلك، يجب تعزيز التعاون الدولي لتبادل المعرفة والتكنولوجيا لمكافحة تلوث الهواء. يتطلب تحقيق هذه التوصيات الجهود المشتركة للحفاظ على بيئة نظيفة وصحة جيدة للأجيال الحالية والمستقبلية.